الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قال أبو حيان: سمعه الحسن، فقال: ما أغفله عما في السماء والطارق.{فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا ناصر (10)}قالوا: ليس من قوة في نفسه لضعفه، ويدل على قوله: {وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَن لَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً} [الكهف: 48].وقوله: {خاشعة أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [القلم: 43] أي من الضعف وشدة الخوف، ولا ناصر له من غيره، كما في قوله: {وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً} [الكهف: 43].وقوله: {يوم لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يومئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19].{وَالسماء ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12)}قيل: رجع السماء: إعادة ضوء النجوم والشمس والقمر.وقيل: {الرجع}: الملائكة ترجع بأعمال العباد.وقيل {الرجع}: المطر وأرزاق العباد. والأرض ذات الصدع.قيل: تنشق عن الخلائق يوم البعث.وقيل: تنشق بالنبات.والذي يشهد له القرآن: أن {الرجع} و{الصدع} متقابلان من السماء والأرض بالمطر والنبات، كما في قوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طعامه أَنَّا صَبَبْنَا الماء صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً فَأَنبَتْنَا فِيهَا حبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً} [عبس: 24-28]، والله تعالى أعلم.{إِنَّهُ لَقول فَصْلٌ (13)}قال ابن كثير: قال ابن عباس حق. وكذا قال قتادة، وقال آخرون: حكم عدل.وقال القرطبي: إنه أي القرآن، يفصل بين الحق والباطل.وقيل: هو ما تقدم من الوعيد في هذه السورة {إِنَّهُ على رجعه لقادر يوم تبلى السرآئر} [الطارق: 8-9].وقال أبو حيان بما قال به القرطبي أولاً، ثم جوّز أن يكون مراداً به الثاني، أي أن الإخبار عن رجع الإنسان يوم تبلى السرائر، قول فصل، وهذا ما يفيده كلام ابن جرير، وعزاه النيسابوري إلى القفال.وسياق السورة يشهد لهذا القول الثاني، لأن السورة كلها في معرض إثبات القدرة على البعث، وإعادة الإنسان بعد الفناء، حيث تضمنت ثلاثة أدلة من أدلة البعث.الأول: السماء ذات الطارق. لعظم خلقتها، وعظم دلالتها على القدرة.الثاني: خلق الإنسان أولاً من ماء دافق، كما في قوله: {قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79].الثالث: مجموع قوله: {والسماء ذَاتِ الرجع والأرض ذَاتِ الصدع} [الطارق: 11-12]، أي إنزال المطر، وإنبات النبات وهو إحياء الأرض بعد موتها. فناسب أن يكون الإقسام على تحقق البحث.وأكد هذا ما جاء بعده من الوعيد بالإمهال رويداً، وقد سمي بيوم الفصل، كما في قوله: {لأَيِّ يوم أُجِّلَتْ لِيوم الفصل وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يوم الفصل وَيْلٌ يومئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 12-15].وذكر الويل في هذه الآية للمكذبين يعادل الإمهال في هذه السورة للكافرين، وإذا ربطنا بين القسم والمقسم عليه، لكان أظهر وأوضح، لن رجع الماء بعد فنائه بتلقيح السحاب من جديد يعادل رجع الإنسان بعد فنائه في الأرض، وتشقق الأرض عن النبات يناسب تشققها يوم البعث عن الخلائق، والله تعالى أعلم.{إِنَّهُمْ يكيدون كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)}نسبة هذا الفعل له تعالى قالوا إنه: من باب المقابلة كقوله: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله} [آل عمران: 54]، وقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ الله يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 14-15]، وهو في اللغة، كقول القائل، لما سئل عن أي الطعام يريد، وهو عارٍ يريد كسوة. وقد اتفق السلف، أنه لا ينسب إلى الله تعالى على سبيل الإطلاق، ولا يجوز أن يشتق له منه اسم، وإنما يطلق في مقابل فعل العباد، لأنه في غير المقابلة فهو في غاية العلم والحكمة والقدرة، والكيد أصله المعالجة للشيء بقوة.وقال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: والعرب قد تطلق الكيد على المكر، والعرب قد يسمون المكر كيداً، قال الله تعالى: {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً} [الطور: 42]، وعليه فالكيد هنا لم يبين، فإذا كان بمعنى المكر، فقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان شيء منه عند قوله تعالى: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين} [آل عمران: 54]، بأن مكرهم محاولتهم قتل عيسى، ومكر الله إلقاء الشبه، أي شبه عيسى على غير عيسى.وتقدم قوله تعالى: {قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} [النحل: 26]، وهذا في قصد النمرود، فكان مكرهم بنيان الصرح ليصعد إلى السماء، فكان مكر الله بهم أن تركهم حتى تصاعدوا بالنباء، فأتى بنيانهم من القواعد، فهدمه عليهم.وهكذا الكيد هنا، إنهم يكيدون للإسلام والمسلمين يريدون ليطفؤوا نور الله بأفواههم، والله يكيد لهم بالاستدراج حتى ياتي موعد إهلاكهم، وقد وقع تحقيقه في بدر، إذ خرجوا محادة الله ورسوله، وفي خيلائهم ومفاخرتهم وكيد الله لهم أن قلل المؤمنين في أعينهم، حتى طمعوا في القتال، وأمطر ارض المعركة، وهم في أرض السبخة، والمسلمون في أرض وملية فكان زلقاً عليهم وثباتاً للمؤمنين، ثم انزل ملائكته لقتالهم. والله تعالى أعلم.{فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)}قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب، ما نصه: هذا الإمهال المذكور هنا ينافي قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] الاية.والجواب: أن الأمهال منسوخ بآيات السيف اهـ.وهذا ما لا يفيده كلام الطبري، وإن لم يصرح به وهو منصوص القرطبي. ولعل في نفس الآية ما يدل على ذلك وهو قوله: {أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً}، أمهلهم رويداً بمعنى قليلاً، فقد قيل الإمهال بالقلة مما يشعر بمجيء النسخ وأنه ليس نهائياً. والله تعالى أعلم. اهـ.
وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة أنه سئل عن قوله: {يخرج من بين الصلب والترائب} قال: صلب الرجل وترائب المرأة أما سمعت قول الشاعر: وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال: {الترائب} الصدر.وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة وعطية وأبي عياض مثله.وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال: {الترائب} أربعة أضلاع من كل جانب من أسفل الأضلاع.وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن الأعمش قال: يخلق العظام والعصب من ماء الرجل، ويخلق اللحم والدم من ماء المرأة.وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله: {يخرج من بين الصلب والترائب} قال: يخرج من بين صلبه ونحره {إنه على رجعه لقادر} قال: إن الله على بعثه وإعادته لقادر {يوم تبلى السرائر} قال: إن هذه السرائر مختبرة فأسروا خيراً وأعلنوه {فما له من قوة} يمتنع بها {ولا ناصر} ينصره من الله.وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {إنه على رجعه لقادر} قال: على أن يجعل الشيخ شاباً والشاب شيخاً.وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد {إنه على رجعه لقادر} قال: على رجع النطفة في الإِحليل.وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة {إنه على رجعه لقادر} قال: على أن يرجعه في صلبه.وأخرج عبد بن حميد عن ابن أبزى قال: على أن يرده نطفة في صلب أبيه.وأخرج ابن المنذر عن الحسن {إنه على رجعه لقادر} قال: على إحيائه.وأخرج عبد بن حميد عن الربيع بن خيثم {يوم تبلى السرائر} قال: {السرائر} التي تخفين من الناس، وهن لله بواد داووهن بدوائهن. قيل: وما بدوائهن؟ قال: أن تتوب ثم لا تعود.وأخرج ابن المنذر عن عطاء في قوله: {تبلى السرائر} قال: الصوم والصلاة وغسل الجنابة.وأخرج ابن المنذر عن يحيى بن أبي كثير مثله.وأخرج ابن البيهقي في شعب الإيمان عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ضمن الله خلقه أربعة: الصلاة والزكاة وصوم رمضان والغسل من الجنابة، وهن السرائر التي قال الله: {يوم تبلى السرائر}».{وَالسماء ذَاتِ الرَّجْعِ (11)}أخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {والسماء ذات الرجع} قال: المطر بعد المطر {والأرض ذات الصدع} قال: صدعها عن النبات.وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير وعكرمة وأبي مالك وابن أبزى والربيع بن أنس مثله.وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد {والسماء ذات الرجع} قال: السحاب تمطر ثم ترجع بالمطر {والأرض ذات الصدع} قال: المازم غير الأودية والجروف.وأخرج عبد بن حميد عن عطاء {والسماء ذات الرجع} قال: ترجع بالمطر كل عام {والأرض ذات الصدع} قال: تصدع بالنبات كل عام.وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس {والأرض ذات الصدع} قال: صدع الأودية.وأخرج ابن مندة والديلمي عن معاذ بن أنس مرفوعاً {والأرض ذات الصدع} قال: تصدع بإذن الله عن الأموال والنبات.وأخرج عبد بن حميد عن قتادة {والسماء ذات الرجع} قال: ترجع إلى العباد برزقهم كل عام لولا ذلك لهلكوا وهلكت مواشيهم {والأرض ذات الصدع} قال: تصدع عن النبات والثمار كما رأيتم {إنه لقول فصل} قال: قول حكم {وما هو بالهزل} قال: ما هو باللعب {فمهل الكافرين أمهلهم رويداً} قال: الرويد القليل.وأخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله عز وجل: {وما هو بالهزل} قال: القرآن ليس بالباطل واللعب.قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قيس بن رفاعة وهو يقول: وأخرج ابن أبي شيبة عن سعد بن جبير {وما هو بالهزل} قال: وما هو باللعب.وأخرج ابن مردويه عن علي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أتاني جبريل فقال يا محمد: إن أمتك مختلفة بعدك. قلت فأين المخرج يا جبريل؟ فقال: كتاب الله به يقصم كل جبار، من اعتصم به نجا، ومن تركه هلك، قول فصل ليس بالهزل».وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {أنه لقول فصل} قال: حق {وما هو بالهزل} قال: بالباطل، وفي قوله: {أمهلهم رويداً} قال: قريباً.وأخرج ابن المنذر عن السدي في قوله: {فمهل الكافرين أمهلهم رويداً} قال: أمهلهم حتى آمر بالقتال.وأخرج ابن أبي شيبة والدارمي والترمذي ومحمد بن نصر وابن الأنباري في المصاحف عن الحارث الأعور قال: دخلت المسجد فإذا الناس قد وقعوا في الأحاديث، فأتيت عليّاً فأخبرته، فقال: أوقد فعلوها؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنها ستكون فتنة، قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر من بعدكم وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تشبع منه العلماء، ولا تلتبس منه الألسن، ولا يخلق من الرد، ولا تنقضي عجائبه هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: {إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد} [الجن: 1]، من قال به صدق، ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم».وأخرج محمد بن نصر والطبراني عن معاذ بن جبل قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً الفتن فعظمها وشددها فقال علي بن أبي طالب: يا رسول الله فما المخرج منها؟ قال: «كتاب الله فيه المخرج، فيه حديث ما قبلكم ونبأ ما بعدكم وفصل ما بينكم، من تركه من جبار يقصمه الله، ومن يبتغي الهدى في غيره يضله الله، وهو حبل الله المتين والذكر الحكيم والصراط المستقيم. هو الذي لما سمعته الجن لم تتناه أن قالوا: {إنا سمعنا قرآنا عجباً يهدي إلى الرشد} [الجن: 1] هو الذي لا تختلف به الألسن ولا تخلقه كثرة الرد». اهـ.
|